
حاسوب القرية .. امرٌ ونهيُ وأفعال أسطوريّة !
الكاتب: علي عدنان عميص
أسوة بأخواتها في كل الأنحاء ، كانت قريتنا وادعة ، هادئة ، هانئة ، ما برحت رغم " تفتّح " البشر تكتنز حظاً وافراً من أريحيّة العلاقات الإنسانيّة ، أطفالها يلعبون على البيادر ، قرب الجداول الرقراقة وفي الأزقّة والطرقات ، يتعاركون ويضحكون .. رجالها يتزاورون ، نساؤها يتحلّقن حول فنجان القهوة ،يملئن الدنيا قيلاً وقال ! الديك كان صيّاحاً وقطعان الماشية تمضي مسرعة عند كل صباح لتلتهم الأعشاب في الحقول، وتعود في المساء تمشي الهوينى بعد أن أرختها التخمة وأتعبها طول المسير. وكانت الطبيعة مدرسة، الطيور لدرس الحريّة، وسنابل القمح لمجد الكادحين، أما تلك الأشجار على قمم الجبال فلرسم الجمال في نفوس الناظرين.. لكن الذي حصل فيما بعد كان إنقلاباً في المشهد الوجداني ، فمنذ عقد ونيّف ، لا أدري من ذاك الذي استقدم إختراعاً تحار له الألباب ، قالوا إسمه " كومبيوتر " ، أدخلوه على أنه ضيف جديد وراحوا يتكلمون عن أصله وفصله وأفعاله الأسطوريّة ، والحق أن ضيفنا لم يكن _آنذاك _ غير ذلك بالنسبة لنا نحن اليافعين ، بدى أنه أرقى ذكاءاً من البشر ، فهو يحل معادلات الرياضيات والفيزياء والكيمياء ، بل إنه يضع في تصرفنا كل علوم الأرض ، ويختصر التاريخ في قرص مدمّج ! وهو إلى ذلك مصدر مرح وتسلية ، مفعمٌ بالألعاب ، يجعل الأحلام في قبضة اليد كلّما لامست الأصابع لوحة الأزرار ! أيّام.. وأنسانا هذا الوافد إلينا من بلاد بعيدة الكثير عن أنفسنا ، واختلس منّا زمن البساطة ، ومشى بنا كما يشاء! سكن خلايانا وألهانا ، فلا رياضة ولا تسكّع على الطرقات ، ومشاوير الغروب فقدت إغراءها ، حتى الزيارات ما عادت " واجباً " ، فأهلاً بأي صديق أو قريب شرط أن يأتي هو إليّ أنا المتسمّر دائماً _ هنا _ أمام شاشة محبوبي العجيب ! وتستمر" فتوحات " الكمبيوتر فيدخل مجاهل أفريقيا ويلبي نداء غابات الأمازون العذراء ، تستقبله قبائل الأسكيمو في القطب المتجمد الشمالي ، الكل ينبسط له ، يعامله بدلال ، حتى لكأنك تراه يضحك في سرّه على الإسكندر المقدوني وجنكيز خان ونابليون بونابرت ، يقول لهم " ركبتم البر والبحر وسقطت في قبَضاتكم دُول ، لكنّ بطولاتكم زالت معكم أو بعدكم في بضع سنين ، أماّ أنا فقد ملكت القلوب والعقول ، أنا حاجة يصبو إليها الناس ، تناديني البشريّة وتلحُّ عليّ :" أين أنت تعال ! " وتمضي السنون ، فنصل إلى حالة الإندماج الكلّي مع الكمبيوتر ، وإنك لتسمع واحدنا يقول : " قد أصبر على بُعد الغوالي _ الأم والأب والصاحب والولد _ لكن سلخي عن هذا الجهاز مُحال ! ، إنه حاضري وغدي وأنا بعيداً عنه لست سوى صفراً من الأصفار ! والحال .. من ذا الذي كسا "ضيفنا" التقني هذا سطوة كبار الفاتحين ، فاستحوذ علينا وجنّدنا في عالمه المعلوماتي ثم سيّرنا " آلاتاً " على نسقه ، وأعاد برمجة الرغبات لدينا ، فبعد أن كنّا نرتمي في أحضان طبيعتنا ونهيم بجمال قريتنا ، إذا بنا نكتفي اليوم باستراق النظر إلى تلك الذاكرة عبر صور نحتفظ بها على شاشة تقاس أبعادها بالبوصات الباردة ! يومنا صارعملاً لا ينتهي في عوالم بلا حدود .. والعمر يمضي وقد هلّت بشائر المشيب ونحن لا نزال وراء قضبان الكومبيوتر ،" نفنجر" أعيننا ، لا نعدّ المساءات ، ونحيا مع هذا " المحبوب " في نعيم مقيم !!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق