
أمُّ الطّيبين!
علي عميص
مثلما يتلبّد الجوّ بالغيوم وتتفاعل فيه الذرات الهوائية ثم ما تلبث أن ترعد وتبرق حتى تهطل الأمطار، كذا نواحي قلبي الذي تتمخّض فيه - الآن - ذكريات عاصفة بفعل رياح الغربة التي هبّت عليّ هذه المرّة (ستمائيّة لا شرقيّة ولا غربيّة) بعدد الأيام التي مرّت على سلخي عن لحمي ودمي، عن أم الطيبين وأمي..!
يا دليلي إلى نور (المعنى)!! يا بريق العواطف يلمع في عينيك، ينطلق سهاماً عشقيّة تجتاح تلابيب القلوب، تشهد أن الله حق، وأن الوجود يبقى جميلاً، وأن أثيراً تنتشر فيه نسائم الإيثار يغدو جليلاً.
قبسات من سنى أمومتك العظيمة أتتني زائرة هذا المساء، كيف أنت يا ساهرة على راحة البؤساء.. لا تنام!
كنت أسألني، ما لك وقصّة ذاك الإنسان الذي قال التلفزيون إنه هجر عائلته لعشرين عاماً، ولم يسأل لماذا بكيته؟.. كم كنت (قزم) التفكير إذ لم أدرك يومها أن تلك (الحالة) تكون أنا أو يمكن أن تكون! وأن قصة كل إنسان هي قصتنا نحن أبنائك المعنيين - كما تفعلين - بليس أقلّ من أحزان الكرة الأرضيّة.
كنت تحضرين (نشرة الأخبار) - على الجثث التي فيها - لا لأنك تهتمين بالسياسة أو بأولئك الذين يستقبلون ويودّعون.. بل لأنك حريصة على أن تحفظي لابنك أخبار الساعة الثامنة كلّما كان غائباً لتُسمّعيها له عندما يعود!.
أذكر يا أماه (درع الحب) الذي ضربته من حولي، أطبقته حتى على (زين العابدين) ابن عمي الصغير الذي كان يزورني يومياً لنلعب معاً فتتصدّى له على الباب وتعبسين بوجهه وتنهرين ذاك الطفل الأرعن كي يخاف ويهرب، فإذا ما استقوى بصداقتي ضعفت أمامه ورفعت له الحاجز، ولكن أنّى له أن يدخل لي! كنت تأخذينه إلى أي أحد إلا أنا، المخصص أولاً كما ترغبين للشؤون الدراسيّة!
تحرقين دمك وشبابك كُرمى لعيون الأبناء الخمسة، وما تبقى في هذا العالم من معنى وروح.. أما أنا الذي كان يبخل عليك - ابتزازاً - بتوصيلة صغيرة في السيارة للقيام بواجب اجتماعي أو حتى (بحبّة بنادول) تطلبين إحضارها من الصيدلية، كنت صبياً طائشاً ليس يعرف ما أمامه من كنوز هي أنت.. وتعلمين عنادي!
من وراء الكواليس تحدّيتني أن أكون مُحباً ونجحتِ - يا لروعتك - (لي)، فهاأنذا (ابنك) أهجم كلّما لاحت لي تلك الوصيّد - أمك، ثم أمك، ثم أمك - أعرف أنها قضيتي وأنك مهمتي، ثم لا ألبث أن أخافَ وأتردد لأن معركة الرد على هجوم حنانك قدرها هزيمتي، فأنا من جبلتُك صُنعت.. هاتفيني عبر صلاتنا واذكريني.. سامحيني، وإن كنتِ - الآن - بعيدة عن مرآي..
كلما زار الرقاد محاجري في المنام، كلما جالستُ إنساناً تواريت أنتِ خلف الكلام، وكنتِ الضمير المستتر الذي يبعث في الحروف كل صدق واحترام..
ربما تجمعنا الأيام، وتنسيني ذات صبحٍ قريب وحشة حياتي الإفراديّة هنا، لحظة أرى بريق عينيك وأسمع نبرة لكنتك الأعجمّية.. ولست أبالي ببعد المسافات التي عليّ أن أقطع، أنت مشواري في هذه الحياة، فهل أصل إليك ذات يوم؟!
كاتب وصحافي لبناني
omaisali2000@gmail.com